فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (النور: 10)، وبعد ذلك: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (النور: 20)، يسأل عن وجه الاختلاف في المعطوفات في الآيتين من الصفات العلية إخبارًا من قوله في الأولى: {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (النور: 10) وفي الثانية: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (النور: 20)؟ وهل كان يناسب عكس الوارد؟
والجواب أن الآية الأولى لما اتبنت على آية التلاعن، وفيها من الستر على المسلمين ممن امتحن بتلك البلية، ومن إخفاء الحكمة في حكم التلاعن وشرعيته على ما استقر عليه أمره، مما يعجز عن فهمه كل معتبر، أعقبت بالصفتين المناسبتين لما ذكرنا مما هو غيرر خاف فقيل: {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (النور: 10)، ولما تقدم قبل الآية الثانية قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (النور: 19)، وجرى بظاهر هذه الآية من الوعيد ما يشتد خوف كل مؤمن منه، أعقب ذلك بصفتين مبقيتين رجاء المؤمنين، ومشعرتين بأن هذا العذاب أن نفذ الوعيد به ليسس الخلود في النار، وما لم يكن من فاعل ذلك كفر باعتقاد حلية تلك المعصية أو التكذيب بالعويد أو التلبس بما هو كفر، وأنه إذا لم يكن شيء من هذا فلا قاطع عن التوبة، فقال: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (النور: 20)، فقد وضح أن ورود كل من هذه الصفات المعطوفة على ما يجب ويناسب، وأن العكس لا يناسب، والله أعلم.
ومما يسأل عنه هنا جواب لولا كيف تقديره ولم حذف؟ وإن لم يكن هذا من مقصود هذا الكتاب. والجواب عنه أن التقدير في الآية الأولى: لَفَصَحَ فاعلَ ذلك، أو ما يرجع إلى هذا، وجوابها في الثانية: لَعَجَّل عذاَبَ فاعِل ذل من حيث إشاعة الفاحشة في المؤمنين، أو لأَهلَكَهم، وأما مسوغ الحذف فطول الكلام بالمعطوف، والطول داع للحذف فحذف ذلك ولدلالة ما تقدم عليه وذلك كثير في كلامهم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)}.
لمّا ضاق الأمرُ على من رأى أهلَه على فاحشة، إذ أن في ذلك قبول نسبِ غير صحيح- فقد نهى الشرعُ عن استلحاقه ولدًا مِنْ غيره. وكان أمرًا محظورًا هتكُ عِرْضِ المرأة والشهادة وعليها بالفحشاء، غذ يجوز أن يكون الأمر في المُعيب؛ أي بخلاف ما يدَّعيه الزوجُ. ولأن أمرٌ ذو خَطَرٍ شَرَعَ اللَّهُ حُكْمَ اللعان ليكون للخصومة قاطعًا، وللمُقْدِم على الفاحشة زاجرًا، ففي مثل هذه الأحوال عنها خَرْجَةٌ. ولولا أنَّ الله على كل شيءٍ قدير وإلا ففي عادة الناس.. مَنِ الي يهتدي لِمِثْلِ هذا الحكم لولا تعريفٌ سماوي وأمر نبوي، من الوحي مُتَلَقَّاهُ، ومنِ اللَّهِ مُبْتَداهُ وإليه منتهاهُ؟
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}.
لبقيتم في هذه الواقعة المعضلة، ولم تهتدوا للخروج من هذه الحالة المشكلة. اهـ.

.كلام جامع للماوردي في كتاب اللعان:

قال عليه الرحمة ما نصه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
مُخْتَصَرٌ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابَيْ لِعَانٍ جَدِيدٍ وَقَدِيمٍ وَمَا دَخَلَ فِيهِمَا مِنَ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَمِنَ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اللِّعَانُ معناه فَمَأْخُوذٌ مِنَ اللَّعْنِ: وَهُوَ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ، يُقَالُ: لَعَنَ اللَّهُ فُلَانًا، أَيْ أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَطَرَدَهُ. قَالَ الشَّمَّاخُ: ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ أَيِ الطَّرِيدَ الْبَعِيدَ: فَسُمِّيَ اللِّعَانُ لِعَانًا؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِبُعْدِ أَحَدِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْقَطْعِ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ. وَقِيلَ: بَلْ سُمِّيَ لِعَانًا لِمَا فِيهِ مِنْ لَعْنِ الزَّوْجِ لِنَفْسِهِ، وَيُقَالُ: الْتَعَنَ الرَّجُلُ، إِذَا لَعَنَ نَفْسَهُ، وَلَاعَنَ، إِذَا لَاعَنَ زَوْجَتَهُ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ لَعَنَةٌ- بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ- إِذَا كَانَ كَثِيرَ اللَّعْنِ، وَرَجُلٌ لَعْنَةٌ- بِتَسْكِينِ الْعَيْنِ- إِذَا لَعَنَهُ النَّاسُ كَثِيرًا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ، وَمَعْنَاهُ احْذَرُوا الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ عَلَى الطُّرُقَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى لَعْنِ النَّاسِ لَهُ.

.فصل اللِّعَانُ حُكْمٌ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْأَزْوَاجِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ عَلَى الْعُمُومِ:

وَالْأَصْلُ فِيهِ اللعان: الْكِتَابُ، وَالسَّنَةُ، وَالْإِجْمَاعُ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النُّورِ: 6، 7] فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِعَانَ الزَّوْجِ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَهَا لِعَانَ الزَّوْجَةِ قَالَ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. فَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} يَعْنِي بِالزِّنَا، فَكَانَ ذَلِكَ مُضْمَرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ يَشْهَدُونَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أَيْ: فَيَمِينُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ أَيْمَانٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا. فَعَبَّرَ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ شَهَادَةٌ مَحْضَةٌ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ فِيهَا مُوَافِقٌ لِعَدَدِ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا، وَلِذَلِكَ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ لِعَانِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ، لِرَدِّ شَهَادَتِهِمَا، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مَرْدُودَةٌ، وَيَمِينَهُ لِنَفْسِهِ مَقْبُولَةٌ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُعَبِّرُ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ. قَالَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ: فَأَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أُحِبُّهَا فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدَهَا لِيَا أَيْ أَحَلِفُ بِاللَّهِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي قِصَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ، وَالثَّانِيَةُ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَأَمَّا قِصَّةُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ فَقَدْ رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزَّهْرِيِّ. وَرَوَاهَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنْ عُوَيْمِرًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآنًا، فَأَمَرَهُمَا بِالْمُلَاعَنَةِ فَلَاعَنَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْظُرُوا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الْإِلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَلَا أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمَرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلَا أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا. فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ، وَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ.
وَقَوْلُهُ: وَحَرَةٌ: هِيَ دُوَيْبَّةٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَلَقَدْ صَارَ أَمِيرًا بِمِصْرَ وَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ: فَقَدْ رَوَاهَا هِشَامٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا الرَّجُلَ عَلَى امْرَأَتِهِ يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ قَالَ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، قَالَ: فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِيُنْزِلَنَّ اللَّهُ فِي أَمْرِي مَا يُبَرِّئُ بِهِ ظَهْرِيَ مِنَ الْحَدِّ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرَائِيلُ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حَتَّى بَلَغَ: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فَأَرْسَلَ رَسُولَهُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمَا فَجَاءَا، فَقَامَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ فَقَامَتْ فَشَهِدَتْ. فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْقِفُوهَا فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا سَتَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ، فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، سَابِغَ الْإِلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقِينَ، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ. فَهَاتَانِ الْقِصَّتَانِ وَرَدَتَا فِي اللِّعَانِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ قِصَّةَ الْعَجْلَانِيِّ أَسْبَقُ مِنْ قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ قِصَّةَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَسْبَقُ مِنْ قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ، وَالنَّقْلُ فِيهِمَا مُشْتَبَهٌ مُخْتَلِفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصَوَابِ ذَلِكَ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْقَذْفِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ، أَوْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَتَعَلَّقَ بِقَذْفِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ، وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إِنْ كَانَ حُرًّا، وَرَدُّ شَهَادَتِهِ، وَثُبُوتُ فِسْقِهِ، وَلَا تَنْتِفِي عَنْهُ أَحْكَامُ الْقَذْفِ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِتَصْدِيقِهَا، وَإِمَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ يَصِفُونَ مُشَاهِدَةَ زِنَاهَا، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَيَزُولُ فِسْقُهُ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النُّورِ:]. وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا تَعَلَّقَ بِقَذْفِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ: الْحَدُّ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَالتَّفْسِيقُ، فَيَصِيرُ مُشَارِكًا لِلْأَجْنَبِيِّ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا، وَلَهُ إِسْقَاطُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ، يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ فِي اثْنَيْنِ مِنْهَا، وَيَخْتَصُّ بِالثَّالِثِ، فَأَمَّا الِاثْنَانِ الْمُسَاوِي لِلْأَجْنَبِيِّ فِيهِمَا: أَحَدُهُمَا: تَصْدِيقُهَا لَهُ.
وَالثَّانِي: إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا. فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ. فَأَمَّا الثَّالِثُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ لِأَجْلِ الزَّوْجِيَّةِ: فَهُوَ اللِّعَانُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْوَارِدِ فِيهِ مِمَّا يَسْقُطُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ، فَأَمَّا ارْتِفَاعُ الْفِسْقِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا، فَإِنْ لَمْ تُلَاعِنْ بَعْدُ وَحُدَّتِ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْفِسْقُ، لِأَنَّ لِعَانَهُ قَدْ صَارَ كَالْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ. وَإِنْ لَاعَنَتْ وَلَمْ تُحَدَّ احْتَمَلَ ارْتِفَاعُ فِسْقِهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدِ ارْتَفَعَ فِسْقُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِ لِسُقُوطِ حَدِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْتَفِعُ فِسْقُهُ؛ لِأَنَّ لِعَانَهَا مُعَارِضٌ لِلِعَانِهِ، وَهُوَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ حَدِّهَا بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ اخْتَصَّ الزَّوْجُ بِالْقَذْفِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الزَّوْجَ مُضْطَرٌّ إِلَى إِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ عَنْ فِرَاشِهِ وَنَفْيِ النَّسَبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهُ، فَصَارَ مَعْذُورًا فِي الْقَذْفِ، فَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مِنْ نَفْيِهِ سَبِيلٌ إِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ وَرَفْعِ الْمَعَرَّةِ وَنَفْيِ النَّسَبِ، وَلَيْسَ الْأَجْنَبِيُّ مُضْطَرًّا، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَذْفِ مَعْذُورًا فَصَارَ أَغْلَظَ حُكْمًا.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَكَانَ بَيِّنًا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَخْرَجَ الزَّوْجَ مِنْ قَذْفِ الْمَرْأَةِ بِالْتِعَانِهِ، كَمَا أَخْرَجَ قَاذِفَ الْمُحْصَنَةِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ مِمَا قَذَفَهَا بِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْقَاذِفِ لِزَوْجَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تُصَدِّقَهُ عَلَى الْقَذْفِ، وَتَصْدِيقُهَا أَنْ تُقِرَّ بِالزِّنَا الَّذِي رَمَاهَا بِهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ الْقَذْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِذَا صَدَّقَتْ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُقَامُ عَلَى مُقِرٍّ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ مُنْكِرَةً لِلزِّنَا لَكِنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا. فَيَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَبَعْدَهَا لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ، وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ وُجُودِ الْبَيِّنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النُّورِ:]. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ- وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا أَلَكُمَا بَيِّنَةٌ أَمْ لَا؟ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الشَّهَادَةُ مِنْ رَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ، فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ مَقْصُورَةً عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا، وَفِي اللِّعَانِ إِثْبَاتُ حَقِّهِ وَإِسْقَاطُ حَقِّهَا، فَجَازَ مَعَ وُجُودِهَا لِعُمُومِ حُكْمِهِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَخَارِجَةٌ مَخْرَجَ الشَّرْطِ لَا مَخْرَجَ الْخَبَرِ.